فصل: من لطائف القشيري في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



اللطيفة الخامسة:
في اختيار هذا الأسلوب التفصيلي، مع أنه كان يكفي أن يقول: للرجال والنساء نصيبُ مما ترك الوالدان والأقربون... إلخ للاعتناء بأمر النساء، والإيذان بآصالتهن في استحقاق الإرث، والمبالغة في إبطال حكم الجاهلية، فإنهم ما كانوا يورثون النساء والأطفال ويقولون: كيف نعطي المال من لا يركب فرسًا، ولا يحمل سلاحًا، ولا يقاتل عدوًا؟ فلهذا فصّل الله تعالى الحكم بطريق (الإطناب) فتدبر أسرار الكتاب المجيد.
اللطيفة السادسة:
ذكر البطون مع أن الأكل لا يكون إلا فيها للتأكيد والمبالغة، فهو كقول القائل: أبصرتُ بعيني، وسمعتُ بأذني وكقوله تعالى: {ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46] وقوله: {ذلكم قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ} [الأحزاب: 4] وقوله: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] والغرض من كل ذلك التأكيد والمبالغة، وفي الآية أيضًا تشنيع على آكل مال اليتيم حيث صرف المال في أخس الأشياء.
اللطيفة السابعة:
قال القرطبي: سمي المأكول نارًا باعتبار ما يؤول إليه كقوله تعالى: {إني أراني أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] أي عنبًا يؤول إلى الخمر، وقيل: المراد بالنار الحرام لأن الحرام يوجب النار فسمّاه الله تعالى باسمه.
اللطيفة الثامنة:
قال الفخر الرازي: وما أشد دلالة هذا الوعيد {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} على سعة رحمته تعالى وكثرة عفوه وفضله، لأن اليتامى لما بلغوا في الضعف إلى الغاية القصوى بلغت عناية الله بهم إلى الغاية القصوى، وذلك كله من رحمة الله تعالى باليتامى.

.الأحكام الشرعية:

.الحكم الأول: ما المراد بالسفهاء في الآية الكريمة؟

اختلف المفسرون في المراد بالسفهاء في الآية الكريمة، فقال بعضهم: المراد به الصبيان والأولاد الصغار الذين لم يكتمل رشدهم وهو منقول عن الزهري وابن زيد.
وقال بعضهم: المراد به النساء المسرفات سواءً كنّ أزواجًا أو أمهات أو بنات وهو منقول عن مجاهد والضحاك. وقيل: المراد به النساء والصبيان وهو قول الحسن وقتادة وابن عباس.
وقال آخرون: المراد بالسفهاء كل من لم يكن له عقل يفي بحفظ المال، ويدخل فيه النساء والصبيان والأيتام وكل من كان موصوفًا بهذه الصفة، وهذا القول أصح وهو اختيار الطبري لأن اللفظ عام والتخصيص بغير دليل لا يجوز.
قال الطبري: إن الله جل ثناؤه عمّم، فلم يخص سفيهًا دون سفيه، فغير جائز لأحد أن يؤتي سفيهًا ماله، صبيًا صغيرًا كان، أو رجلًا كبيرًا، ذكرًا كان أو أنثى، والسفيه الذي لا يجوز لوليه أن يؤتيه ماله، هو المستحق الحجر بتضييعه ماله، وفساده وإفساده، وسوء تدبيره.

.الحكم الثاني: هل يحجر على السفيه؟

استدل الفقهاء بهذه الآية الكريمة على وجوب (الحجر على السفيه) لأنّ الله تعالى نهانا عن تسليم السفهاء أموالهم حتى نأنس منهم الرشد، ويبلغوا سنّ الاحتلام.
والحجر على أنواع: فتارة يكون (الحجر للصغر) فإن الصغر قاصر النظر مسلوب العبارة.
وتارة يكون (الحجر للجنون) فإن المجنون فاقد الأهلية في العقود لعدم العقل.
وتارة يكون (الحجر للسفه) كالذي يبذّر المال، أو يسيء التصرف في ماله لنقض عقله ودينه.
وتارة يكون (الحجر للإفلاس) كالذي تحيط الديون به ويضيق ماله عن وفائها، فإذا سأل الغرماء الحاكم الحجر عليه حجر عليه، فكل هؤلاء يحجر عليهم للأسباب التي ذكرناها.
وقد اتفق الفقهاء على أن الصغير لا يدفع إليه ماله حتى يبلغ سنّ الاحتلام، ويؤنس منه الرشد لقوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْدًا فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} فقد شرطت الآية شرطين: الأول: البلوغ، والثاني: الرشد وهو حسن التصرف في المال، وقال الشافعي: لابد أن ينضم الصلاح في الدين، مع حسن الصلاح في المال، فالفاسق يحجر عليه عند الشافعي خلافًا لأبي حنيفة.
وسبب الخلاف يرجع إلى معنى (الرشد) وقد نقل ابن جرير أقوال السلف في تفسير الرشد كقول مجاهد هو (العقل) وقول قتادة هو الصلاح في (العقل والدين) وقول ابن عباس هو (الصلاح في الأموال) ثم قال:
وأولى هذه الأقوال عندي في معنى الرشد (العقل وإصلاح المال) لإجماع الجميع على أنه إذا كان كذلك لم يكن ممن يستحق الحجر عليه في ماله، وحوز ما في يده عنه وإن كان فاجرًا في دينه.
أقول: ليس كل فاسق يحجر عليه لأن في الحجر إهدارًا للكرامة الإنسانية، وإنما يقال: إذا كان فسقه ممّا يتناول الأموال المالية، كإتلاف المال بالإسراف في الخمور والفجور وجب الحجر عليه، وإن كان يتعلق بأمر الدين خاصة كالفطر في رمضان مثلًا فلا يجب الحجر، وهذا هو نفس ما رجحه شيخ المفسرين الطبري وأرشدت إليه الآية الكريمة بطريق الإشارة، حيث جاء لفظ الرشد منكّرًا، {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْدًا} أي نوعًا من الرشد وهو حسن التصرف في أمور المال، ولم يأت معرفًا والمقصود الأكبر في هذا الباب إنما هو الرشد الذي ينافي الإسراف في المال، فما اختاره ابن جرير قوي من هذه الوجهة والله أعلم.

.الحكم الثالث: هل يحجر على الكبير؟

ذهب جمهور العلماء إلى أن الكبير يحجر عليه كما يحجر على الصغير إذا كان سفيهًا.
وذهب أبو حنيفة إلى أن من بلغ خمسًا وعشرين سنة سلّم له ماله سواءً كان رشيدًا أو غير رشيد.
قال العلامة القرطبي: واختلفوا في الحجر على الكبير، فقال مالك وجمهور الفقهاء يحجر عليه، وقال أبو حنيفة: لا يحجر على من بلغ عاقلًا إلاّ أن يكون مفسدًا لماله، فإذا كان كذلك منع من تسليم المال إليه حتى يبلغ خمسًا وعشرين سنة، فإذا بلغها سلم إليه بكل حال، سواء كان مفسدًا أو غير مفسد لأنه يصير جَدًّا، وأنا أستحيي أن أحجر على من يصلح أن يكون جدًا.
أقول: الصحيح ما ذهب إليه الجمهور، وهو مذهب الصاحبين (أبي يوسف ومحمد) أيضًا، ولا عبرة بكبر السن فرب رجل يبلغ الخمسين من العمر وهو سفيه الحلم يسرف ماله ويبذره فيجب الحجر عليه، وذلك أن الصبي إنما منع من ماله لفقد العقل الهادي إلى حفظ المال، وكيفية الانتفاع به، فإذا كان هذا المعنى قائمًا بالشيخ والشاب، كانا في حكم الصبي فوجب أن يمنع دفع المال إليه ما لم يؤنس منه الرشد لظاهر الآية الكريمة.
وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الرجل لتنبت لحيته ويشيب وإنه لضعيف الأخذ لنفسه ضعيف العطاء فيها.

.الحكم الرابع: هل يباح للوصي أن يأكل من مال اليتيم؟

دلّ قوله تعالى: {وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} على أن للوصي أن يأكل من مال اليتيم إذا كان فقيرًا بمقدار الحاجة من غير إسراف، وإذا كان غنيًا وجب عليه أن يتعفف عن مال اليتيم، ويقنع بما رزقه الله من الغنى، وقد اتفق العلماء على جواز أخذ قدر الكفاية بالمعروف عند الحاجة واختلفوا هل عليه الضمان إذا أيسر؟
فذهب بعضهم إلى أنه لا ضمان عليه لأن الله تعالى أباح له الأكل بالمعروف فكان هذا مثل الأجرة، وهذا مروي عن الإمام أحمد رحمه الله.
وذهب آخرون إلى وجوب الضمان واستدلوا بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: ألا إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة الولي من مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، فإذا أيسرتُ قضيت.
وقال الحنفية فيما رواه الجصاص عنهم أنه لا يأخذ على سبيل القرض، ولا على سبيل الابتداء سواءً كان غنيًا أو فقيرًا، واحتجوا بعموم الآيات {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2]، {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى}، {وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط} [النساء: 127] {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل} [البقرة: 188].
قال الجصاص فهذه محكم حاصرة لمال اليتيم على وصيّه، وقوله: {وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} متشابه محتمل فوجب رده إلى تلك المحكمات.
وروي عن ابن عباس أنه قال: {وَمَن كَانَ فَقِيرًا} الآية نسختها {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْمًا} إلخ.
الترجيح: وقد جرح الطبري القول الأول وهو جواز الأخذ على وجه الاستقراض حيث قال: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: {فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} المراد أكل مال التيم عند الضرورة والحاجة إليه، على وجه الاستقراض منه فأما على غير ذلك الوجه فغير جائز له أكله.
أقول: ولعلَّ هذا القول أرجح، لأنه جمع بين النصوص والله أعلم.

.ما ترشد إليه الآيات الكريمة:

1- وجوب الحجر على السفهاء حتى يتبيّن رشدهم وإصلاحهم للأموال.
2- الانفاق على المحجور عليه بالطعام والكسوة وسائر وجوه الإنفاق.
3- اختبار حال الأيتام عند البلوغ قبل تسليمهم المال لمعرفة دلائل الرشد.
4- ضرورة الإشهاد عند تسليم اليتامى أموالهم خشية الجحود والإنكار.
5- تقرير الإسلام لمبدأ الميراث وجعله حقًا للذكور والإناث في مال الأقرباء.
6- وجوب الإحسان إلى اليتامى والخشية عليهم كما يخشى الإنسان على أولاده من بعده.
7- الإعتداء على أموال اليتامى من الكبائر التي توجب عذاب النار. اهـ.

.سؤال وجوابه:

سؤال: لقائل أن يقول: الأكل لا يكون إلا في البطن فما فائدة قوله: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَارًا}؟.
وجوابه: أنه كقوله: {يَقُولُونَ بأفواههم مَّا لَيْسَ في قُلُوبِهِم} [آل عمران: 167] والقول لا يكون إلا بالفهم، وقال: {ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج: 46] والقلب لا يكون إلا في الصدر، وقال: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] والطيران لا يكون إلا بالجناح، والغرض من كل ذلك التأكيد والمبالغة. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)}.
إنما تولَّى الحق سبحانه خصيمة اليتيم، لأنه لا أحدَ لليتيم غيرُه، وكلُّ من وَكلَ أمره إليه فَتَبَرَّأ من حوله وقوته فالحق سبحانه ينتقم له بما لا ينتقم لنفسه. اهـ.

.من فوائد ابن عاشور في الآية:

قال رحمه الله:
{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا}.
جملة معترضة تفيد تكرير التحذير من أكل مال اليتامى، جرّتهُ مناسبة التعرّض لقسمة أموال الأموات، لأنّ الورثة يكثر أن يكون فيهم يتامى لكثرة تزوّج الرجال في مدّة أعمارهم، فقلّما يخلو ميِّت عن ورثة صغار، وهو مؤذن بشدّة عناية الشارع بهذا الغرض، فلذلك عاد إليه بهذه المناسبة.
وقوله: {ظلمًا} حال من {يأكلون} مقيِّدة ليخرج الأكلُ المأذون فيه بمثل قوله: {ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف} [النساء: 6]، فيكون كقوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [النساء: 29].